أحنُّ إلى خبز أُمي
هذه الأبيات من قصيدة «تعاليم حورية»، جاء درويش لحورية قبيل وفاته بأسبوعين، ليخبرها بإجرائه عملية بقلبه في أمريكا، وبإحساس الأم طلبت منه عدم إجراء هذه الجراحة، تقول حورية بلغتها الجميلة: «أجا كالعادة بسرعة وراح بسرعة، فات غرفتي، وباس (قبّل) يدي ورأسي وحضنني بقوة، وقال إنه راح يعمل عملية بيقول الأطباء إنها صعبة، قال إنها أصعب من العملتين اللي قبلها، حسيت أنه ما بدو إياها، خايف يا لوعتي منها، قلت له يا ابني لا تعملها، قال لي إنها ضرورية، قلت له لا تعملها، ترجيته أنه لا يعملها، ما ردش علي، قال إنها ضرورية».
وقهوة أمي
ولمسة أُمي.
وتكبُر في الطفولةُ
يوما على صدر يومِ
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي!
خذينيِ إذا عدتُ يوما
وشاحا لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك.
أراد محمود درويش بهذه الكلمات أن يبعث برسالة اعتذار وحنين لأمه «حورية» التي خجل من دمعها وهو معتقل بالسجون الإسرائيلية عام 1965، حينما رأته بعدما مُنعت من إعطائه الخبز الذي تصنعه خصيصا له، فأنشدها تلك الكلمات التي تغنى بها الفنان مارسيل خليفة، لتصبح تيمة فلسطينية تغنى للأم وللوطن، يقول محمود درويش الذي تحل ذكرى وفاته اليوم، عن هذه القصيدة: «عندما جاءت أمي لزيارتي ومعها القهوة والخبز منعوها من إدخالهما، وسمعتها وهي تحاول بكل ما أوتيت من قوة لتوصل إلي الخبز الذي خبزته بنفسها والقهوة التي أعدتها لي، و لما سمحوا لها بالدخول احتضنتني كطفلٍ صغير، وهي تبكي، فبدأت أُقبِّل يديها، كما لم أفعل من قبل، وعندئذٍ انهار ذلك الجدار الذي كان بيني وبينها، واكتشفت أني ظلمت أمي عندما اعتقدت أنها تحبيني أقل من باقي إخواني، وعندما غادرت ولم أكن قادرا على البوح لها بأحاسيسي، مكثت ذلك المساء نادما، وقررت الاعتذار لها في قصيدة، فكتبتها وأسميتها قصيدة «اعتذار»، ولم يكن مسموحا لنا بورق الكتابة، فكتبتها على ورقة الألمنيوم لعلبة السجائر، وأخذتها معي خلسةً عندما خرجت من السجن».
جمعت درويش بوالدته علاقة فريدة، فهي «الحورية» التي آمن بها، فكانت الأم والحبيبة والأخت والصديقة ومصدر الإلهام الدائم لأشعاره، وكانت أول شخص يرحل من العائلة ليلحق بمحمود درويش بعد وفاته، أنجبت والدته ثمانية أبناء، كان محمود ثانيهم، ورث درويش عنها حب الكلمة، والقدرة على صياغتها وتشكيلها كما تعجن وتشكل الخبز بيديها، فكانت تعشق الغناء الفلكلوري وتجيد تأليفه، يُقال: إنها في أحد أعراس أحفادها اتصل بها ولدها محمود ليهنئ عائلته بالزفاف، فقامت بأخذ سماعة الهاتف، وتركت الخط مفتوحا لتسمعه إحدى أغانيها التي ارتجتها لغاليها محمود:
محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكّة يا قمر ضاوي ع الدرب
اطلع ع الخطاب يا قوي القلب
اضرب بسيفك وعليّ مشانق ع الدرب
في عام 1970 قرر شاعرنا مغادرة الوطن بعدما مُنع من استكمال دراساته العليا بفلسطين المحتلة، واختار السفر إلى موسكو تاركا «حورية» على وعد بالعودة، ولكنها لم تغب عنه، فكانت تحضر له في أشعاره حاملة معها حنانها وخبزها وقهوتها التي كان لا يرتضي أن يصنعهما أحد له سواه بعد أمه، حالت الظروف بين درويش وبين الوفاء بوعده بالعودة قرابة 28 عاما، عاد بعدها لينعم بقربها، ويلقي بهمومه في حجرها وحضنها الدافئ، يقول درويش لأمه في هذه المرة: «تعبت يا أمي من السفر، كوني محطتي الأخيرة، حرريني من شبحي الذي يحاصرني، وأنزليني من تعبي لأحيا كما أريد، طمنيني يا أمي بأني هنا ولست هناك، هذا القمح لي والهواء والنوم وأنت».
سافر درويش مرة أخرى ليُمنع لمدة ست سنوات من دخول فلسطين، حاول خلالها عدة مرات بالعودة، لكنها باءت كلها بالفشل، ولم يشفع له سوى مرض أخيه الذي أرفقت تقاريره الطبية مع طلب التصريح بالزيارة.
أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد
تمشطني بخصلة شعرها الذهبي
تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات
وترفو جوربي المقطوع
...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي
وترمي في قصيدتي الأخيرة شالها!
سافر درويش مرة أخرى ليُمنع لمدة ست سنوات من دخول فلسطين، حاول خلالها عدة مرات بالعودة، لكنها باءت كلها بالفشل، ولم يشفع له سوى مرض أخيه الذي أرفقت تقاريره الطبية مع طلب التصريح بالزيارة.
أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد
تمشطني بخصلة شعرها الذهبي
تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات
وترفو جوربي المقطوع
...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي
وترمي في قصيدتي الأخيرة شالها!
هذه الأبيات من قصيدة «تعاليم حورية»، جاء درويش لحورية قبيل وفاته بأسبوعين، ليخبرها بإجرائه عملية بقلبه في أمريكا، وبإحساس الأم طلبت منه عدم إجراء هذه الجراحة، تقول حورية بلغتها الجميلة: «أجا كالعادة بسرعة وراح بسرعة، فات غرفتي، وباس (قبّل) يدي ورأسي وحضنني بقوة، وقال إنه راح يعمل عملية بيقول الأطباء إنها صعبة، قال إنها أصعب من العملتين اللي قبلها، حسيت أنه ما بدو إياها، خايف يا لوعتي منها، قلت له يا ابني لا تعملها، قال لي إنها ضرورية، قلت له لا تعملها، ترجيته أنه لا يعملها، ما ردش علي، قال إنها ضرورية».
ما أجمل أن تكتب القصائد لأمك و تتغزل بها، تشتاق إليها و ترعاها، و تحاول الرجوع إلى حضنها و لو طالت المسافة بينكما، هكذا هو الشاعر العاشق لأمه، التي لم أجتهدت لتربي شخص عظيم مثل محمود درويش، الذي يعد علمًا يضرب به المثل في أرجاء هذه الأرض.
ردحذفكانت هنك علاقه قويه بين محمود درويش و امه. وهي كانت سبب في جعله احد اعظم الشعراء في وقتنا الحديث.
ردحذف